1-السلطة الروحية
حصل تطوّر كبير في بريطانيا عام 1981م . فقد أوصت لجنة الدستور البريطاني بإلغاء ما عرف بقانون التكفير و الإلحاد !. هذا القانون الذي ينصّ بمعاقبة كل من يقوم بانتقاد المؤسسة الدينية و رجالها و تاريخها و كل ما ينسب إليها . هذا القانون الذي أبقى الشعوب في جهل تام عن ماضيهم الحقيقي . حتى هذا التاريخ ، كان أي انتقاد للكنيسة ، مهما كان عابراً ، يتعرّض للقمع مباشرة و يحذف من أجهزة الإعلان و دور النشر و غيرها من أوساط إعلامية .
بعد إزالة هذا القانون ، ظهرت حقيقة جديدة إلى العلن . و صدمت الملايين !. هذه الحقيقة التي طالما حاول بعض الرجال و النساء قولها عبر التاريخ ، لكنهم تعرّضوا للقمع و الملاحقة . أما الآن ، و بعد هذا التحوّل الكبير ، ظهرت الصورة بكامل أبعادها !.
سُمح لأوّل مرة لمؤسسة البي . بي . سي الإذاعية بتقديم برنامج وثائقي على شاشة التلفاز مؤلف من 13 حلقة عنوانه " كوزموس " . بالإضافة إلى نشر كتاب بنفس العنوان . أكّد هذا البرنامج ما كان يعلنه المؤرخون منذ زمن طويل لكن دون جدوى .
ـ " لقد عملت المؤسسة الدينية على منع حقائق كثيرة من الوصول إلى الجماهير " !.
ـ " الكنيسة هي المسئولة عن إغراق العالم في عصر الظلمات " !.
كارل ساغان في برنامج كوزموس
ـ " كل من حاول تحدى أي مظهر من مظاهر دين الدولة كان يعاقب بوحشية منقطعة النظير!".
ـ " أغلقت المكتبات و الهيئات التعليمية لأكثر من ألف عام ! و كل كتاب غير مسيحي كان يتلف في الحال ! و أصبحت القراءة و الكتابة مقتصرة على الكهنة . حتى الملوك حرموا من هذه النعمة . و في بلاد الجهلاء ، كل من يقرأ و يكتب هو الملك ! ".
و قد ظهر على شاشة البي بي سي أيضاً ، مسلسل وثائقي بعنوان " ذي بورغاس " ، يتمحور حول شخصية البابا ألكسندر السادس ( 1492م ـ1503م ) . و صدم الملايين من ما شاهدوه أمام أعينهم !. كانوا يظنون أن الباباوات القدامى هم بنفس الطيبة و الرقّة التي يتصف بها باباوات هذا العصر . لكن ماذا يحصل لهم لو تعرّفوا على سيرة البابا إنوسنت الثالث ( 1198م ـ 1216م ) ، و الكثيرون غيره من المسئولين عن أبشع الجرائم في التاريخ ؟!.. لقد حكم هؤلاء الرجال كطغاة ! كأي إمبراطور روماني مستبدّ !.
عندما سقطت روما بيد المتطرفين المسيحيين عام 410م ، دمّروا كل المؤسسات القائمة ما عدا الكنائس . و وقع السكّان تحت أقدام البابا إنوسنت الأوّل و عبدوه كممثّل الله على الأرض !. و أطفئت منارة المعرفة في العالم المسيحي ، و حلّت مكانها الخرافات ، و حكم الجهل و الفساد لمدّة ألف عام !.
ذكر كارل ساغان ( مقدم برنامج كوزموس ) مثالاً على المعاملة التي تلقاها العلماء على يد المتعصّبين المتعطّشين للسلطة . روى قصّة هيباتيا ( المولودة عام 370 م ) التي عملت في مكتبة الإسكندرية ، كانت عالمة فلك و رياضيات و فيزياء و رئيسة المدرسة الفلسفية الأفلاطونية . هذه انجازات استثنائية بالنسبة لمرأة في ذلك الزمن . و في تلك الفترة ، كانت الكنيسة الحديثة المنشأ تعزّز قوتها و نفوذها على الساحة ( بعد أن أصبحت تمثّل دين الدولة الرومانية ) ، و راحت تعمل على استئصال مظاهر الثقافة الوثنية . و السيدة هيباتيا وقفت في وسط هذه التحوّلات الاجتماعية النافذة . و طالما احتقرها رئيس أساقفة الاسكندرية . فهيباتيا التي مثّلت رمزاً للعلم و المعرفة في حينها كانت تمثّل بالنسبة لرئيس الأساقفة رمزاً للوثنية و الإلحاد !. لكنها استمرّت بممارسة مهنتها في التعليم و تأليف الكتب . و في عام 415م ، بينما كانت في طريقها إلى العمل ، تعرّضت لكمين على يد رجال الدين المتطرّفين التابعين لرئيس الأساقفة ، جرّوها من داخل العربة التي تقلّها ، مزّقوا ثيابها ، و قاموا بتقطيعها إرباً ! و حرقوا بقايا جسدها !. و جميع أعمالها و مؤلفاتها العلمية طمست و دمرت ، و نسي اسمها تماماً !. أما رئيس الأساقفة ، فأصبح فيما بعد قديساً !.
هذه ليست حادثة معزولة ، بل كانت جزءاً من عملية إبادة كبرى تم تنفيذها بانتظام و طالت جميع العلماء و المثقفين. و بقي الحال كذلك إلى أوائل القرن التاسع عشر !.
كان العلماء يقتلون بتهمة الوثنية . و عرّف رجال الدين الوثنية بأنها مذهب الشعوب المتوحّشة المجرّدة من الحضارة . و هذا التصنيف المحرّف لم يستثني فيثاغورث مثلاً ، أو إراتوسثينوس ، الرجل الذي أثبت كروية الأرض ! قبل عصر التنويري بألف و خمسمائة سنة !.... ألا يحقّ للمؤرخين العصريين أن يغضبوا بسبب إخفاء الحقيقة عن الشعوب ؟.
تعرّف كلمة " وثني " في القواميس على أنها تشير إلى الإنسان الهمجي ، الغير متحضّر ، الغير مثقّف ، الجاهلي ، الغير متنوّر .... صنّفت الكنيسة سقراط ، فيرجيل ، أفلاطون ، أرسطو ، هيباتيا ، سيسيرو ، و غيرهم من عمالقة الفكر الإنساني القديم بأنهم وثنيين !.
و بعد إجراء هذه التصنيفات و عملية استئصال الفكر الوثني القديم ، راح الكهنة ينشرون فكرهم الخلاّق و تعاليمهم الإنسانية الملهمة . معتمدين على روايات مقدّسة تذكر كيف وجب على الشعب المقدس قتل الأعداء و القضاء على مالهم و عدم العفو عن أحد منهم ، و كيف وجب قتل الرجال و النساء ، أطفالاً و رضّعاً ، بقراً و غنماً ، جمالاً و حميراً . و عبارات أخرى تدعوا إلى تهشيم أسنان الأعداء ، و غسيل الأقدام بدمائهم . و يمسكون صغارهم و يضربون بهم الصخور !. رسخوا هذه الأفكار في عقول الرعية و قاموا باستئصال العبارات العذبة التي كتبها ماركوس أريليوس و سينيكا و غيرهم من الفلاسفة " الوثنيين الملعونين " !. فإذا قمنا بمقارنة هذه المقتبسات بأخرى كانت محرّمة على الشعوب ، نكتشف حينها سبب حرمان الجماهير من الإطلاع عليها .
الفيلسوف المعاصر "سيلفر بيرش " مثلاً ، هذا الرجل الذي شبهه الكهنة بالشيطان ! و الذي لا يمكن لمؤلفاته و أفكاره الظهور على أي وسيلة إعلامية أو غيرها من وسائل جماهيرية مع أنه ألّف العديد من الكتب . هكذا كانت إجابات سلفر بيرش على الأسئلة التالية :
ـ كيف تعرّف الله للأولاد الصغار ؟
هذه ليست مهمة صعبة على الشخص إذا كان لديه فكرة واضحة عن القوّة الخفية التي تدير الحياة . أما بالنسبة إلي ، فسأشير إلى القدرة الفاتنة التي خلقت الطبيعة و طريقة عملها . سأشير إلى النجوم ... كحبات الماس المتناثرة في السماء . و أشير إلى عظمة الشمس ، و إلى انعكاس القمر . أشير إلى همسات النسيم و دمدمته ، و انحناء الصنوبر . أشير إلى الجدول الهزيل ، و المحيط الجبار . سوف أتلمّس كل مظهر من مظاهر الطبيعة مشيراً إلى أنها تدار بهدف مقصود . هدف عاقل . و جميعها تسير وفق قانون و تنمو وفق قانون . و هذه المظاهر المختلفة تشكّل جزء من نظام عظيم يصعب شموله . كون عملاق لا حدود له . لكنه محكوم بقانون . و تسير وفقه الكواكب العملاقة و الحشرات الصغيرة . العواصف و النسيم . كل الحياة ، بأشكالها و أحجامها المختلفة ، تسير بمشيئة هذا المدبّر العظيم . و بعدها أقول ، العقل الذي يدير كل هذه المظاهر ، و القوة التي تعزّز وجودها و استمرارها هو ما نسميه الله ..
ـ و هذا هو جواب الشيطان سيلفر بيرش على السؤال التالي :
متى هو الوقت الأفضل للتأمل ( الصلاة ) ؟
في الصباح .. عند بزوغ الفجر ، و تشرق الشمس فوق التلال ... و تبدأ العصافير بالأناشيد ...
هذا لم يرق للكهنة الذين يهتمون بالمسلمات أكثر من السلوك المستقيم !. ماذا تتوقّع من رجال يعتبرون عدوهم اللدود هو كل من آمن بالتالي :
إن أي شخص مهما كانت ديانته أو عرقه ، مؤمن أو غير مؤمن ، يمكن أن يكون ودود ، محب ، كريم ، رحيم ، و كل الصفات التي تجعله يستحق تصنيفه كإنسان مستقيم ..
هذا الكلام لا يناسب رجال الدين القابضين على رقاب الشعوب ، من كافة المذاهب و الطوائف . فالإنسان المستقيم بنظرهم هو من يؤمن بالمسلمات و التعاليم الخاصة بعقيدته ، و يجب عدم مجادلتها أبداً . حينها يصبح مستقيماً و يدخل الجنة !.